خاص المركز العربي للدراسات والأبحاث
الحمدُ لله وحْدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، وبعد:
فلا يَخفى ما للتشجيع من أثرٍ طيِّب وثمرة صالحة على الفرْد وعلى المجتمع، في الدنيا والآخِرة، بل إنَّه يصحُّ لنا أن نقول: إنَّه لا نجاح إلا بتشجيع، فمِن المعلوم أنَّ الأفراد هم العنصر الأوَّل في بناء كل أمَّة، وصلاح ونجاح هذا الفرد وعطاؤه هو اللبِنة الأولى في بناء إصلاح الأمَّة والمجتمع؛ ورُبَّ كلمة تشجيع أقامتْ شخصًا فأقام الله به أمَّة، ورُبَّ كلمة تثبيط قعدتْ بالشخص، فقعدتْ به أحلامه وآماله، فخسِر وخسرتْ أمَّته طاقةً كبيرة، كان مِن الممكن أن تتفجَّر لتصلح وتبني، وتنتج وتثمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونظرة تأمُّل في التاريخ وفي الواقع الحديث تُنبئنا بالخبَر اليقين؛ وقدْ كان نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الأُسوة الحسنة لكل من أرد التأسي في كل شيء - كان يشجِّع أصحابَه بالكلمة الطيِّبة والتلطف الحسن، بل كان يُشاورهم في الأمْر والرأي، ويأخذ برأيهم ومشورتهم كما أمرَه ربه - عزَّ وجلَّ - في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
انظر كيف أثَّر هذا على أصحابه فكان سبيلاً لتنميتِهم وصلاحهم وإصلاحِهم، وتأمَّل كيف فعلتْ كلمة ((فإنَّك غُليِّم مُعلَّم)) مع التلطُّف ومسْح الرأس والدُّعاء بالرحمة في رجلٍ مِن أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث كانت سببًا في أنْ صارَ مِن حفظة الأمَّة وممَّن يُؤخَذ عنه كتابُ الله تعالى غضا طريًّا كما أُنزل؛ حفِظ سبعين سورةً مِن فِي رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -! هذا هو ابنُ أمِّ عبد عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يروي لنا خبرَه قائلاً: "كنتُ أرْعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعيط، فمرَّ بي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر، فقال: ((يا غلام، هل مِن لبن))؟ قلت: نعمْ، ولكني مؤتمَن، قال: فهل مِن شاةٍ لم يَنْزُ عليها الفحْل؟! فأتيتُه بشاةٍ فمسح ضرعَها فنزَل لبنٌ فحلبَه في إناء فشرِب وسقَى أبا بكر، ثم قال للضرْع: ((اقلص))، فقلص، ثم أتيتُه بعدَ هذا، فقلتُ: يا رسولَ الله، علِّمني مِن هذا القول، فمَسَح رأسي، وقال: ((يرْحَمُك الله؛ فإنَّك غُليِّم مُعلَّم))"، وفي رواية "قلت: عَلِّمني مِن هذا القرآن، قال: ((إنَّك غُلام مُعلَّم، فأخذتُ مِن فيه سبعين سورةً))[1].
وكيف أنَّه لما أثنى على أبي هريرة ودعَا له وشجَّعه أصبح مِن حفَّاظ الصحابة، بل هو أكثرُ الصحابة - رضي الله عنهم - روايةً للحديث! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قُلْتُ: يا رَسولَ اللَّه، إنِّي أَسْمَعُ مِنْك حَديثًا كَثِيرًا أَنْساهُ؟ قالَ: ((ابْسُطْ رِداءَك))، فَبَسَطْتُه، قال: فَغَرَفَ بِيَدَيْه، ثُمَّ قال: ((ضُمَّه)) فَضَمَمْتُه، فَما نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَه[2]، بل مدَح فيه حرصَه على الحديث قبل أن يُجيبه عن سؤاله؛ فعنه - رضي الله عنه - أنَّه قال: يا رسولَ الله، مَنْ أسعدُ الناسِ يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِمَا رأيت من حِرْصك على الحديث....))[3]، فكيف تظنُّ بحِرص أبي هريرة - رضي الله عنه - على الحفظ والسؤال والنفع والاستفادة بعدَ ذلك؟!
بل تأمَّل كيف فعَل الثناءُ في العبد الأوَّاه ابن عمر - رضي الله عنهما - لما رأى رؤيا فقصَّها على أُخته حفْصة - رضي الله عنها - فقصَّتْها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((نِعْمَ الرجلُ عبدُالله لو كان يقوم مِن الليل))، فانظرْ إلى أثَر ثناء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ابنِ عمر - رضي الله عنهما؛ "قال سالم بنُ عبدالله بنِ عمر: فكان عبدالله، بعدَ ذلك، لا ينام مِن الليل إلا قليلاً".
فكم يبعث التشجيعُ في نفس المتعلِّم من حبٍّ للعِلم، وكم يساعد في تسارُعِ خُطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرةُ التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عنِ الثناء عندَ كلِّ نجاح وتفوُّق!
وفي قصة سَلمة بن الأكْوَع - رضي الله عنه - في (ذي القرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعدَ أن أبْلَى سلمة - رضي الله عنه - بلاءً حسنًا، ثم ناموا في الطريق، قال سلمة - رضي الله عنه -: فلمَّا أصبحْنا قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُ فرساننا اليوم أبو قتادة، وخيرُ رِجالتنا: سلمة))، قال: ثم أعطاني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سهمين: سهم الفارس وسهم الراجِل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على العضباء راجعين إلى المدينة"، تأمَّل هذه الحادثة، وكم فيها مِن الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ مِن إعلان للتكريم أمامَ الصحابة، ثم إعطائه سهمين مكافأةً وتقديرًا لجهوده، ثم في الإرداف والتكريم والتقدير له[4]!
وفي سُنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمثلة كَثيرةٌ كثيرة يعجِز عنها الحصْر، فحسبُنا ما ذُكِر مثالاً، وحسبُنا من القلادة ما أحاط بالعُنق.
ولو تأمَّلنا أحوالَ القادة العِظام على مرِّ التاريخ لوجدْنا أنَّ مِن أعظم أسباب عظَمتهم ونجاحهم التشجيع؛ انظرْ إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وماذا قالتْ عنه أمُّه لما قال لها رجل: لو عاش هذا سيسود قومَه؛ فقالت منكرةً عليه، مرسيةً القاعدة في علوِّ الهمة أنها إلى أقْصى غاية – قالت: ثكلتُه إن لم يَسُدْ إلا قومَه! وقد كان بالفِعل ما رجَتْ وما ربَّتْ عليه ولدَها وشجَّعت، فقد كان معاوية - رضي الله عنه - مِن أعدلِ القادة وأشجعهم وأطولهم قيادةً، وكان يحبُّه أهل الشام حبًّا شديدًا - كما هو مبسوطٌ في محله مِن كتب التاريخ والسِّير.
وهل أتاك خبرُ محمَّد الفاتح فاتح القسطنطينية، وعلى ماذا كان يتربَّى، وبماذا كان يُشجَّع؟!
كان مربِّيه الشيخ العالم الشيخ آق شمس الدين يأخذه كل يوم على شاطئ البحر ويقول له: إن وراء هذا البحر مدينةً تسمى القسطنطينيَّة قال عنها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لتفتحنَّ القسطنطينيَّة، فلنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعمَ الجيشُ ذلك الجيش ))؛ روه الإمام أحمد في مسنده، فماذا كان؟ كان أنْ نمَا وترسَّخ في نفْس هذا الفاتح العظيم التأهُّب لفتْح هذه المدينة وبتوفيق مِن الله كان هو فاتحَها بعد أنْ حاول المسلمون محاولاتٍ كثيرةً مستميتةً قبل ذلك لفتحها، ولكن التوفيق بيد الله[5]!
فيا الله كم يفعل التشجيع في النفوس!!
والإمام العَلم شيخ الشافعية، بل شيخ الإسلام يحيى بن شَرَف الدين النووي - رحمه الله تعالى - لَمَّا رآه شيخٌ عالِم مربِّ فاضل ظاهر الصلاح لما رآه يبكي بينما الصبيان يلعبون، سأله لماذا يبكي؟ فأخبره أن يبكي لأنَّه يريد أن يراجِع القرآن وأصحابه يُكرهونه على اللعب، فقال كلمته المشجِّعة الصادقة التي ثَبتتْ صحَّتها بعدُ - قال: "إن عاش هذا الغلام سيكون أعلمَ أهل زمانه"، بل ذهَب إلى معلِّمه ووصَّاه به قائلاً له: أنه يُرجَى أن يكون أعلمَ أهل زمانه وأزهدهم وينتفع الناسُ به، فسأله المعلِّم، أمنجِّمٌ أنت؟ فأجاب الشيخ: لا ولكن الله أنْطَقني بذلك! وانظر إلى ترجمة الإمام النووي مفصَّلةً في مصادرها لتعلمَ صِدق ما أقول.
وعلى النقيض فكثيرٌ مِن القُدرات، وكثيرٌ مِن أصحاب الكفاءات يُصابون بالضمور، بل ربَّما يموتون وتموت مواهبُهم وقُدراتهم؛ لأنَّهم لا يَجِدون مَن يدفعهم بكلمةِ ثناء، أو يرفعهم بعبارةِ تشجيع، أو يكافئهم على إنجازِهم وبذلْهم.
فالتاريخ حافِلٌ بالأمثلة التي أحبطتْ وثبطَّتْ فماتتْ قدراتها؛ ألَّف بعضُ طلبة العلم كتابًا فاطَّلع عليه أحدُ المثبِّطين وذمِّه، فما كان مِن مؤلِّفه إلا أنْ ألقاه في التنُّور فأحرقه، وكان هذا أوَّلَ مؤلفاته وآخِرَها في آنٍ!
وألَّف بعض العلماء شرحًا لكتاب سيبويه قلَّ أن يوجدَ مِثله، وبينما هو يشْرَح لطلاَّبه إذ أساء الأدبَ معه بعضُ طلاَّبه، فما كان مِن هذا العالم إلا أنْ غسَل هذا الشرح بالماء، وقال: والله لا أجْعَل أبناء البقَّالين نحاةً!
فانظرْ كم خسرتِ الأمَّة كلها مِن تراثٍ بسبب عدمِ التشجيع؟!
وفي واقعنا الحديث نرَى كثيرًا مِن أفذاذ الرِّجال وعباقرة الأجيال في أمَّتنا أصبحوا طيورًا مهاجرةً عن أمَّتنا وأوطاننا؛ بسببِ أنهم لم يجدوا مَن يُشجِّعهم أو يعرف قدْرَهم؛ فها هو المهندس الطرير، وها هو الطبيب الخبير، والعالِم النِّحرير، والمحقِّق المدقِّق الكبير و... كل هؤلاء قد هاجَروا، وللأسف ذَهبوا إلى الأعادي حيث التشجيع والتقدير، وحيث التنمية والإصْلاح، ولكن لغير بَني وطني!
ففي مصر فقطْ يقول الأستاذ مجدي داود في دعوتِه للطيور المهاجِرة أن تعودَ لأرض مصر: "رحَل عن مصرَ الآلاف ممَّن صاروا اليوم في أماكنَ قياديَّةٍ في الدول الغربية، ولعلَّ ما وصل إليه الدكتور أحمد زويل مِن مكانة في الولايات المتحدة دليلٌ على ذلك، ومِن هؤلاء العلماء الذين فرُّوا من ظُلم الظالمين وطغيان الطُّغاة إلى حيث يَجِدون مَن يُقدِّرهم، ويَرْعى أبحاثَهم ويقوم بتنفيذها، الدكتور صبري الشبراوي جرَّاح وخبير الإدارة العالَمي، والدكتور مصطفى السيِّد أوَّل مصري وعربي يحصُل على قلادة العلوم الوطنيَّة الأمريكيَّة، التي تعتبر أعلى وسام أمريكي في العلوم، والدكتور عادل صقر، الذي حصَل على أعْلى جائزة صيدلانيَّة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وكذلك الدكتور فاروق الباز العالِم الجيولوجي، والذي شغَل منصبَ مدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بُعْد في جامعة بوسطن في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، والدكتور المعتز بالله عبدالفتاح، أستاذ العلوم السياسيَّة بجامعة القاهرة، وجامعة ميتشجان الأمريكيَّة، وكذلك المهندس هاني عازر المصري، الذي أشْرَفَ على بناء محطَّة قِطارات برلين أحْدَث محطَّة قطارات في العالَم... إلخ"[6]؛ وما هذا إلاَّ لأنَّهم لم ينالوا التشجيعَ الكافي والمكافأةَ اللائقة بهم!
وإنِّي زاعمٌ زعمًا أنَّه لو خُلِّي بيْن أبناء هذه الأمة وبيْن قُدراتهم وملكاتهم، وشُجِّعوا على الخير بالكلمةِ، وساعدتْهم الأيادي وكافأتهم - أزْعُم أنه لا يوجد في العالَم كله أمثالُ أبناء أمَّتنا، فعندنا ملَكات ونبَاهات ليستْ عند غيرنا، وفوق هذا توفيقُ ربِّنا المليك العلام لنا، فقط إذا أَخذْنا بالأسباب وتوكَّلنا على ربِّ الأرباب.
ألاَ فلْنتعلَّمِ التشجيع ولنتعوَّد على الكلمة التي تَبني لا التي تهدِم؛ ليشجِّعِ الزوج زوجتَه وأولاده، ليشجِّع كلُّ رئيس في عملٍ من تحت يديه، ليشجِّع كل صاحب مكانة كلَّ مبتكِر وكلَّ صاحب فِكرة تُثمر وتصلح؛ ولنهجر كلَّ ما يُثبِّط، ولنبتعد عن كلِّ ما يقْعُد بقدرات المرء، مِن كلمةٍ أو فعلٍ، والله الموفِّق والهادي إلى سواءِ السَّبيل.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
[1]رواه الطيالسي وأحمد والحسن بن عرفة؛ "صحيح السيرة النبوية" للألباني (1/124).
[2] رواه البخاري.
[3] رواه البخاري.
[4] ينظر: "أساليب نبويَّة في التربية والتعليم"، إبراهيم بن صالح الدحيم.
[5] انظر تفصيلاً ماتعًا لهذا الفتْح المبارَك: ما كتَبه الدكتور علي محمَّد الصلابي - نفع الله به.
حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر